أكرم القصاص - علا الشافعي

فاطمة ناعوت

الأقباط يكفكفون دموعَ مصرَ بالموسيقى

الثلاثاء، 10 يناير 2012 04:47 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
ليس أجمل من مشهد رجل دين يعزف الموسيقى. الصورةُ النمطية لرجل الدين المتجهّم المُعادى للحياة، صورةٌ مصطنعةٌ وغير منطقية. فكلما اقترب الإنسان من الله ازداد حبّا واحترامًا للحياة والجمال والفن لأن اللهَ واهبُ الحياة الأوحد وواهب الجمال، وأعظم الفنانين فى خلقه الطبيعة بعجائبيتها والكائنات بمملكاتها ومنظوماتها اللانهائية الإبداع. وكعادتهم ينجح أقباطُ مصر فى امتصاصهم محنَ الوطن وأزماته والخروج به منها بأرقى الأساليب وأطيبها.
على مدى عشرين عامًا منذ 1989، وحتى 2011، يقوم الأب بطرس دانيال، مدير المركز المصرى الكاثوليكى للسينما، بتدريب أطفال وصبية من الموهوبين من طلاب المدارس والبالغين من المتخرجين على العزف، فيما تدرّبهم المعلّمة ماجدولين ميشيل على الغناء الأوبرالى، مرتين فى الأسبوع طوال العام، حتى تكوّن كورال «سان جوزيف» الاحترافىّ، الذى تفخر مصرُ به وتنافس أرقى كورالات إيطاليا. تعلّم الأبُ دانيال الموسيقى الأوبرالية فى إيطاليا على يد كبار الموسيقيين، ثم عاد إلى وطنه ليحمل لهم شعلة أرقى الفنون وأعلاها. والحق أن عجزَ اللغة، كل لغة، عن التبيان، لا يتبدّى مثلما يحدث حين تحاول الكلماتُ القاصرةُ رسم قطعة من الموسيقى. بوسع الكلمات وصفَ الفنون الخمسة ورسمها. فبوسع أديب كبير أن يصف قطعة نحتية أو لوحة تشكيلية أو بناية معمارية، وطبعًا تظل الكلماتُ أداةَ رسم: الشعر والمسرح، لكنها تعجز كل العجز مع الفن السادس: الموسيقى. كيف نرسم «النغمةَ» بالكلمات؟ كيف نصفُ صوت البلبل أو الكروان أو خرير الماء أو حفيف الشجر؟ لهذا اخترع الموسيقيون لغةً خاصة برموز لا يفكُّ شفرتها إلا الموسيقيون، ما نسميه: «النوتة الموسيقية». وهنا لا حيلة لى إلا استخدامى لغتى القاصرة لرسم مشهد يفوق التعبير باللغة، حدث فى قاعة كنيسة «سان جوزيف» بقلب القاهرة، فى لحظة كانت مصرُ تبكى فيها شهداء جددًا قصفتهم رصاصات رجال الأمن أمام مجلس الوزراء، فكان كونشرتو الكريسماس بمثابة يد حانية تكفكفُ دمع مصر بالموسيقى وترانيمَ تناجى السماءَ لتمد يدها وتنقذ مصر.
مثل كل عام، السبت الأخير قبل عيد الميلاد، برعاية الأب أنطون كامل، راعى الكنيسة، تشهد مصر هذا الكونشرتو الضخم الذى يحرص على حضوره مثقفو مصر وفنانوها وإعلاميوها، وهم موقنون أنهم على وعد بنهل طاقة وجودية دافقة، وغسيل روحى عميق.
الأب دانيال جالس على البيانو، ماجدولين ميشيل وعصا المايسترو فى يدها تواجه الكورال الذى تراوحت أعمارهم من السنوات الأربع إلى خمس وستين سنة، بينما انتظم «الفلوت» رمسيس وديع، ولعب ابناه أنطونيو وليوناردو على الفيولين، وعلى الجيتار بيتر لويس، بينما حملت سماح لويس آلة باركشن الإيقاعية، لتغمر الحضور بأجراس الميلاد. أما الطفلة الجميلة فرح سامى فعزفت الكمان بتمكّن وحِرفية، إضافة إلى غنائها الصولو. أنصتنا إلى مواهبَ فريدة يندهش المرءُ كيف لم تصل إلى العالمية بعد! مثل الأخوين يوسف وماريام باخورا اللذين لم أسمع فى نقاء صوتيهما ولا تعدد طبقاتهما ودقّة التحكم فى القرار والجواب، من بين الكثير مما سمعت من أوبرات وكونشرتات حول العالم. أما قطعة السكّر فى الحفل فكانت الطفلة نيكول بولس «4 سنوات» التى أدهشت الحضور بموهبتها المفطورة وإدراكها العميق للأغنية التى شدت بها بالفرنسية Petit Papa Noel. قدّم الحفل الأب ممدوح شهاب، بذكر عنوان المقطوعة التالية ومؤلفها ولمحة تاريخية عنها إن كانت من التراث العالمى، وأسماء المغنين الصولو والعازفين، ثم يبدأ سيلُ العذوبة ينهمر ليَغرق الحضور فى صمت يشبه صمت خشوع الصلاة، لكى يغترفوا أكبر قدر من الطاقة السماوية التى تقارب حال الحلول الصوفى فى روح الله. ثلاث وعشرون أنشودة وترنيمة بالفرنسية والإنجليزية مع مزج خيوط من العربية سلّمنا إليها أرواحنا لتبرأ من أسقامها وأوجاع وطن انتفض بالثورة ويعالج الآن جراحه التى لن تشفيها إلا يدُ الله. ثم اختتموا بأغنية تحمل البِشر بالبهجة التى نرجو أن يحملها لنا العامُ الجديد Joy of the World. كنا ننصتُ ونحن نسترجع طفولتنا وذكرياتنا فى المدرسة مع احتفالات رأس السنة، وأغانى عيد الميلاد، وحلمنا بزيارة بابا نويل ليأتى لنا بالهدايا ويحقق أحلامنا الصغيرة، فنتعلم أن غدًا أجمل لا ريب آت، لأن الله يحبّنا وينتظر أن نتعلم منه درس الحب فنحب الآخرين. ما أحوج المصريين اليوم إلى مراجعة درس الحب والتسامح والمودة الذى ربما نسيناه مع أحداث العام الكهل الطاعن 2011، أطول عام فى التاريخ، الذى بدأ بثورة عظيمة وانتهى بحال من الضبابية والتشكك جعلت الكل ينظر إلى الكل بعين الارتياب والحذر. فإن قال جون كوكتو: «للشعر ضرورة، ليتنى أعرف لمَ!» فأنا أقول: «للموسيقى ضرورة، وأعرف لمَ». لأنها تهذيبُ الروح وتنقيتها من الصغائر والدنايا التى تبعد بنا عن الإنسان وتقربّنا من الهمجىّ. وما أحوجنا للسمو والعلوّ. لهذا قال أفلاطون: «علّموا أولادكم الفنّ، ثم أغلقوا السجون». شكرًا لأقباط مصر الذين يعلموننا درس المحبة والتسامح يومًا بعد يوم، أزمةً فى إثر أزمة.








مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
التعليقات 10

عدد الردود 0

بواسطة:

gmr3love

وحشتينا قوى بكلامك العاقل والحكيم ربنا يحفظك ويحميكى وماتغيبيش علينا مصر محتاجه للعقول الم

التعليق فووووووووووووووووووووووق

عدد الردود 0

بواسطة:

tarek

????

عدد الردود 0

بواسطة:

ahmad abdelaziz

بجد

عدد الردود 0

بواسطة:

ســعيد مـتولـى

إيه كل الإقبال على الحياه ده

عدد الردود 0

بواسطة:

pop

رائعة

عدد الردود 0

بواسطة:

fady

بجد انا فخور بيكى

عدد الردود 0

بواسطة:

Mustafa Mohamed Elkinawi

الجميع يجفف دموع مصر وليس الاقباط وحدهم

عدد الردود 0

بواسطة:

astakoza

احسن مقال لأحسن كاتبة

دائماً رائعة يا باشمهندس

عدد الردود 0

بواسطة:

astakoza

شكراً يا اروع كاتبة

عدد الردود 0

بواسطة:

مسيحية وبس

لديكم رأى اخر؟

اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة