أكرم القصاص - علا الشافعي

أحمد عبدالمعطى حجازى

النثر ابتداءً من الشعر!

الخميس، 11 يونيو 2009 09:09 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
فى صالون الأربعاء الذى تقيمه لجنة الشعر فى المجلس الأعلى للثقافة فى آخر أربعاء من كل شهر، كان عبدالرحمن الشرقاوى هو نجم الصالون الأخير. وقد اخترنا عبدالرحمن الشرقاوى هذه المرة لنذكر الناس بالجانب المنسى فى إنتاج هذا الكاتب الكبير الذى اشتهر بنثره أكثر مما اشتهر بشعره، مع أن الشعر هو فنه الأول الذى بدأ منه طريقه إلى الأنواع الأدبية الأخرى التى اشتهر بها وهى الرواية، والقصة، والسيرة، والمقالة.

والشعر لم يكن عند الشرقاوى مجرد خطوة أولى أو مرحلة تمهيد لدخول الحياة الأدبية أو تدريب على استخدام اللغة، وإنما كان موهبة أصلية استطاع فيها الشرقاوى أن يقدم تجارب وإضافات، كان لها دور رائد مؤثر فى حركة تجديد القصيدة العربية المعاصرة.

ولقد تحدثت عن شعر الشرقاوى فى هذه المناسبة الأخيرة وفى مناسبات أخرى سبقتها. ولن أكرر هنا ما قلته عنه، وإنما أريد أن أجعل حديثى عن شعره فرصة للحديث عن العلاقة بين الشعر والنثر، وهى موضوع يبدو غير واضح فى نظر الكثيرين، ولايزال عرضة للخلط وسوء الفهم.

هناك من يعتقد أن لغة الشعر يجب أن تظل بعيدة عن لغة النثر، لأن الشعر فى نظره لا يتناول إلا الدائم الخالد المشترك فى الحياة الإنسانية، فيدور حول الحب، وحول موقف الإنسان وعواطفه وانفعالاته إزاء الطبيعة، وإزاء الموت، على حين يتناول النثر ما هو عابر وتفصيلى ومحلى.

ولاشك فى أن الشعر أقدر على تصوير الجوانب الانفعالية والعاطفية فى الإنسان، وأن النثر أقدر على تصوير الجوانب الاجتماعية. لكن حياة الإنسان العاطفية ليست مقطوعة الصلة بحياته الاجتماعية والعملية. والشعر إذن لا يمكن أن يكون مقطوع الصلة بالنثر.

وفى كل شعر عظيم عناصر نثرية تربطه بالواقع اليومى البسيط الذى نراه مثلا فى معلقة امرئ القيس حين يتحدث عن بعر الآرام. وكما نجد فى الملاحم اليونانية التى لا يتحدث فيها هوميروس عن الآلهة، والأبطال وحدهم، بل يتحدث فيها أيضا عن الإماء والخدم، والطعام والشراب، والإقامة والسفر. وكما نجد فى الشعر اليابانى الذى يتحدث عن فتات الحياة وعن أشيائها المتواضعة وكائناتها البسيطة، البط، والسمك، والضفادع، والصراصير. وعندما يقطع الشاعر علاقته بلغة النثر ينعزل عن الواقع المتجدد، وتضمر لغته وتتحجر وتصبح باردة مصطنعة.

وكما يخطئ الشعراء الذين ينكرون حاجتهم للنثر، يخطئ الناثرون الذين ينكرون حاجتهم للشعر، ويعتقدون أن لغة النثر تستطيع أن تبدأ من نفسها ولا تحتاج للشعر. بل إن لدينا روائيين وقصاصين وكتاب مقالات يعتقدون أنهم ليسوا بحاجة للنحو، لأن المصححين يكفونهم هذه الحاجة، وينوبون عنهم فى تطبيق القواعد، فيرفعون لهم الفاعل إذا جعلوه هم منصوبا، ويجرون لهم المضاف إليه إذا تركوه هم بدون جر!

هؤلاء العباقرة ترى أسماءهم مقرونة بالألقاب التى يخلعونها على أنفسهم، أو يخلعها عليهم غيرهم ممن لا يقلون عنهم عبقرية فتظنهم كتابا، حتى إذا رفعوا أصواتهم فى مناسبة من المناسبات بعبارة يضطرون فيها للتشكيل سمعت العجب العجاب وقلت عندئذ لنفسك: فليمد أبوحنيفة رجليه ولا حرج!

وقد تعودنا أن نستهين بالخطأ النحوى ونعتبره خطأ شكليا لا يهتم به إلا المدرسون والأزهريون، أو الأجيال القديمة منهم، فالأجيال الجديدة من هؤلاء وهؤلاء لم تعد تهتم، ولم تعد تجد فرقا كبيرا بين أن تكون الكلمة مرفوعة أو منصوبة، ومادمنا قد فهمنا المعنى من العبارة فبوسعنا أن نغفر للمتحدث ما يقع فيه من أخطاء.

لكن الخطأ النحوى ليس مجرد خطأ شكلى، وإنما هو خطأ أساسى جوهرى، خطأ فى التصور والفهم والتفكير. يمكننا بالطبع أن نفهم المعنى المراد من عبارة تقول «فلان نائم» حتى لو أخطأ القائل فى تشكيلها. لكن هذا لا يصح إلا فى الاستخدام الدارج للغة، حيث يدور الحديث فى معظم الحالات عن مسائل بسيطة وموضوعات قريبة وهموم مشتركة لا تحتاج إلا للقليل من أدوات اللغة وطاقاتها، لكى نتواصل فيها ويفهم بعضنا عن بعض.

نحن فى الاستخدام الدارج للغة حين نبيع ونشترى، ونسأل ونجيب لا نحتاج للكثير، لأننا لا نكشف عن أسرار عميقة، ولا نعبر عن براعة خاصة، وإنما تكفينا كلمة واحدة فى بعض الأحيان لنفهم المراد الذى نوضحه أو نستوضحه بالإشارات والإيماءات والإعادة والتكرار. أما فى لغة الكتابة، وخاصة فى لغة الأدب، فنحن نحتاج لكل أدوات اللغة وكل طاقاتها.

نحتاج فى الكتابة وفى الأدب خاصة لمعجم غنى، وتراكيب متعددة نختار منها ما يعبر بدقة عن المعنى المقصود بكل ما نريد أن نقوله فيه على نحو مكشوف أو مستتر، تلميحا أو تصريحا. وربما أردنا أن نضمن العبارة الواحدة معنيين متناقضين. وربما أردنا من السؤال أن نقدم الجواب.

وربما أردنا أن نستنكر ما تظاهرنا بإطرائه. وهو ما يحتاج لما ذكرت، كما يحتاج لمعرفة نحوية نميز بها بين العبارات المختلفة التى نستخدم فى تركيبها ذات المفردات. إن المعنى الذى نفهمه من عبارة تقول فيها «فلان نائم» يختلف عن المعنى الذى نفهمه من هذه العبارة حين تصبح «فلان النائم» أو «فلان الذى نام». هذا الاختلاف الذى نراه بين تركيب وتركيب لا يمكن أن يكون اعتباطيا أو عشوائيا إلا عند الأدعياء الذين يجهلون اللغة ويعجزون عن استخدامها والتعبير فيها. أما عند الكتاب الحقيقيين فلكل تركيب مقصده ومعناه. وتلك هى النظرية التى شرحها عبدالقاهر الجرجانى فى «دلائل الإعجاز» حين تحدث عن التأليف أو النظم فقال.. «واعلم أن ليس النظم إلا أن تضع كلامك الوضع الذى يقتضيه علم النحو، وتعمل على قوانيه وأصوله، وتعرف مناهجه التى نهجت فلا تزيغ عنها.

فلست بواجد شيئا يرجع صوابه - إن كان صوابا - وخطؤه - إن كان خطأ - إلى النظم ويدخل تحت الاسم إلا وهو معنى من معانى النحو قد أصيب به موضعه ووضع فى حقه، أو عومل بخلاف هذه المعاملة، فأزيل عن موضعه، واستعمل فى غير ما ينبغى له».

لغة الأدب إذن لا تحتمل الخطأ النحوى، ولا تستجيب للكاتب إلا إذا امتلك كل أدواته. لأنها لغة خاصة موسومة بسمات تتميز بها كتابة عن كتابة. لهذا نحتاج فى تذوقها وفهمها لثقافة لغوية واسعة. وقبل أن يحتاج القارئ لهذه الثقافة يحتاج إليها الكاتب، وإلا كانت كتاباته ثرثرة فارغة. والثقافة الأدبية تبدأ بالشعر.








مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة