أكرم القصاص - علا الشافعي

إسلام بحيرى

السياق الاجتماعى للخطاب النبوى فى الحديث كان على سبيل الممازحة

حديث «ناقصات عقل ودين».. نظرة أخرى

الخميس، 15 يناير 2009 11:22 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
◄لو كانت خلقة المرأة مفطورة على النسيان كما يزعم التراثيون لما أفلح وجود المرأة الثانية فى الشهادة لأنها أيضا مفطورة على النسيان

كانت العوامل الاجتماعية والفكرية والبيئية عند الفقهاء والمفسرين الأوائل ذات أثر بالغ فى إلباس تفسيرات كل النصوص الدينية التى اختصت بالمرأة قرآنا أو سنة لباسا يلائمها ويلائم روح السيطرة والتقزيم لدور وكنه المرأة المسلمة, رغم أن هذه النصوص لو نظرنا إليها نظرة متعقلة ومجردة من الهوى لوجدنا تفسيراتها الطبيعية تتوافق مع روح العدالة الإلهية فى الدين كله, فالروح العنصرية كانت طافحة وغالبة على كل أحكام الفقهاء والمفسرين والمحدثين القدامى بما جعلهم يطوعون النصوص للهوى والعرف والعادة، كما أوضحنا فى مقالنا «تاريخ تحقير النساء فى التراث».

وقد كانت تفسيرات الحديث الذى أخرجه البخارى ومسلم عن «نقصان عقل المرأة ودينها» أحد أضلاع مربع قضى به الفقهاء والمفسرون على شخصية المرأة المسلمة, هذا المربع الذى تتكون أضلاعه من هذا الحديث وآية الشهادة فى القرآن وآية القوامة وآيات الإرث, وقد أخرج حديث «نقصان العقل» البخارى ومسلم باختلاف بين ألفاظه, وسنعرض رواية البخارى المشهورة.

فقد أخرج البخارى الحديث فى بابين من كتابه, الأول: باب «الزكاة على الأقارب» والثانى باب «ترك الحائض الصوم»: «حدثنا... عن أبى سعِيد الخدرى قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فى أضحى أو فطر إلى المصلى فمر على النساء فقال يا معشر النساء تصدقن فإنى رأيتكن أكثر أهل النار فقلن وبم يا رسول الله قال تكثرن اللعن وتكفرن العشير ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن قلن وما نقصان ديننا وعقلنا يا رسول الله قال أليس شهادة المرأة مثل نصف شهادة الرجل، قلن بلى، قال فذلك من نقصان عقلها أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم، قلن بلى، قال فذلك من نقصان دينها» (1/507).

هذا هو النص الذى ابتنى عليه التراثيون تأسيسا أن المرأة مخلوق ناقص العقل والدين, وقد حاول الدكتور «أبو شقة» رحمه الله- فى موسوعته «تحرير المرأة فى عصر الرسالة» أن يوضح أن هذا الحديث لا يحتمل إلا أن يكون مزاحا بين النبى وأولئك النساء, ولكن الوهابيين أهالوا على كلام الرجل التراب واتهموه بما يعف القلم عن ذكره. ولكن النص يستحق وقفات متأملة لنستنتج منه المعانى والمرامى الحقيقية بعيدا عن سطوة التفاسير المقدسة التى أسهمت وأسست لفكر نقص العقل والدين عند المرأة.

ولنسترسل مع نص الحديث فيما يلى:
أولا:
من البديهى أن نعلم أن تفسير الخطاب النبوى تفسيرا يلائم روح الدين إنما يجب أن يمر من خلال نظرة شاملة لسياقه الاجتماعى والظرفى, ثم محاولة «استقراء مناهج الخطاب النبوى», حيث يجب معرفة طرق التخاطب النبوى فى كل أحوال التخاطب من تشريع أو وعظ أو زجر أو تواد ومزاح, حيث كان النبى من خلال استقراء كامل لأحاديثه الصحيحة تتماثل لغة خطابه فى الأحوال المتشابهة, وذلك ما يقودنا بالضرورة إلى فهم أوسع وأدق للخطاب والمقصد, وقد دل على ذلك ما ورد عن أم المؤمنين عائشة فى البخارى فى معرض إنكارها على رواية أبى هريرة للحديث فقالت عن طريقة تحدث النبى: «لم يكن يسرد الحديث كسردكم» (4/231), أى لم يكن يتكلم كما يتكلم الرواة من الصحابة سردا, وهذا ضابط مهم جدا لمعرفة المراد النبوى من خلال النظر لكل السياقات المذكورة مجتمعة.

ثانيا:
لو نظرنا للحديث الشهير فى البداية من خلال سياقه الاجتماعى والظرفى لوجدنا النبى فى صبيحة صلاة لعيد أضحى أو فطر -الاختلاف من عند الرواة- ولا يهم فى البدء إن كان السياق وديا أو غير ودى, بل الأهم هو مناط السياق الحقيقى للحديث لتحديد المخاطبين, والسؤال: هل يمكن أن نعمم الخطاب فى الحديث على كل نساء العالمين فى أمة النبى أو غيرها إلى يوم يبعثون؟ بالقطع لا, وهذا ما يسوقنا لسؤال أهم, إذن هل قصد النبى بكلامه كل النساء المسلمات فى العهد النبوى؟ أيضا نستطيع الجزم بعدم معقولية ذلك, وهذا ما يدعونا لقراءة الحديث بسياقات متعقلة, لأنه لا يشك عاقل أن أحاديث النبى ليست على الدوام موجهة لعموم المسلمين من السلف والخلف إلى يوم البعث إلا ما دل على ذلك فيه الدليل اللغوى الظاهر, فهناك من حديث النبى ما هو موجه ومحدود بظرفه الاجتماعى والزمانى, لذا فإنه وباستقراء مناهج الخطاب النبوى وتدبرها فى العموم نجدها تدلنا بوضوح على أن النبى كان يعمم الكلام فى معرض توجيهه للخاص عند العظة أو الزجر, فكثيرا ما يرد الحديث النبوى بصيغة: «ما بال أقوام» من غير تحديدهم رغم وجودهم المادى أمام النبى، كما يؤكد العديد من الروايات, ومن هذا الاستقراء يتبين لنا أن خطاب النبى كان خطابا خاصا موجها لهؤلاء النسوة، وعمم النبى فيه الخطاب بقوله: «يا معشر النساء» اتباعا لنهجه فى ذلك, ويقودنا ذلك كما هو حال الخطاب النبوى فى الظرف المشابه إلى احتمالية تؤكدها لغة الخطاب, أن يكون النبى قد علم عنهن أو عن بعضهن خاصة مشكلات زوجية من خلال الشكايات التى كان يذهب بها الصحابة للنبى, وهذه الخلفيات كانت هى الداعية لخطاب النبى للنساء على هذا النحو بما لم يعلمه الصحابى أو الصحابيان اللذان رويا الحديث, وعدم معرفة الراوى من الصحابة لملابسات الحديث وخلفياته ثابت ووارد ومعروف فى كثير من الروايات, فقد ورد عن السيدة عائشة فى «فتح البارى» عند إخبارها بأن أبا هريرة يحدث أن النبى قال: «إن الطيرة فى الفرس والمرأة والدار»، فغضبت غضبا شديدا وقالت: ما قاله -تعنى النبى- وإنما قال: إن أهل الجاهلية كانوا يتطيرون من ذلك» (6/61), وذلك ما يؤكد أن الصحابى يمكن أن يخفى عليه صدر -بداية- الحديث أو ملابسات قول النبى لهذا الحديث, وهذا ما يدلل ويؤكد على حتمية معرفة النبى بحال هؤلاء النسوة خاصة وبمشاكلهن الزوجية, لأنه ليس من المتبادر للذهن ولا من المنطقى أن تتصف كل نساء العهد النبوى أو كل نساء أمة الإسلام بالصفة التى أردفها النبى فى الكلام فقد قال: «تكثرن اللعن وتكفرن العشير-الزوج-», بل الحق والعقل يقول إن ذلك من المحال, حيث هن نساء صحابيات فاضلات عظيمات القدر, كما أن الواقع المشاهد وحال السياق اللغوى يكذب ما ذهب إليه المفسرون العنصريون من استحالة تعميم الخطاب فى هذا الحديث على جنس النساء بالكلية إلى أن يرث الله الأرض, فها هو الكثير من أمهاتنا وزوجاتنا شاكرات لا يكفرن العشير ولا يكثرن اللعن, وإن وجد من بعضهن ذلك فهم متساوون فيه مع الرجال, فمن الرجال أيضا الصابرون الشاكرون لأزواجهم, ومنهم الذى يكثر اللعن ويكفر العشرة أيضا, وكذلك الحال المستقرأ من الخطاب القرآنى للإنسان بقول الله عنه تارة كفور وتارة عجول, ومن المعلوم عقلا أن هذا الخطاب غير موجه لكل إنسان بل مخصص بسياق الآيات, وهذا ما يؤكد أن الخطاب فى الحديث ليس موجها لكل نساء العهد النبوى وبالطبع غير موجه لكل نساء الأمة, حيث إن ذلك التفسير المغلوط لا يعقل ولا يتصور لغويا ولا منطقيا ولا سياقيا, ويحمِّل الحديث ما لم يقله النبى أو حتى يقصده.

ثالثا:
أما بالنظر للحديث من خلال السياق اللغوى فنجد قول النبى يهدف للمعنى المجازى وليس الحقيقى فالنبى قال لهن: «فإنى رأيتكن أكثر أهل النار», وهنا يُتبين الخطاب المجازى للنبى بقصد العظة, فلا يمكن أن يكون هؤلاء النساء الصحابيات فى النار على سبيل الحقيقة, ليس بفضلهن فحسب بل لقول النبى لهن «تصدقن» فلو كانوا من أهل النار حقا وحكما فما فائدة أن «يتصدقن» كما أمرهن رسول الله, فإن الصدقة فى هذه الحال لا تغنى عنهن شيئا, كما لا يفترض بأى حال لغوى أن النبى كان يتكلم عن جنس النساء كله بأنه أكثر أهل النار لأن ذلك المعنى لا يمكن قبوله من خلال السياق اللغوى والظرفى, بل الحق أن النبى كان دائما ما يعظ بلطف مخوفا من النار على سبيل المجاز, فقد ورد عنه أنه قال للصحابة الذين لم يحسنوا الوضوء كما أخرج مسلم: «ويل للعراقيب من النار» (1/148), ولا يتصور هنا أن المخاطب داخل فى النار, ولكنه منهاج الوعظ النبوى الذى ينحو دائما إلى المجاز فى اللغة, ولذا فإنه لا ريب أن النبى لم يكن يعظ هؤلاء النسوة إلا بصيغة المجاز وليس الحقيقة.

رابعا:
إذن النبى خاطب الخاصة من النساء بصيغة العامة, ثم وعظهن بخطاب مجازى عن كفران العشير-الزوج-, ثم انتقل النبى فى خطابه وبنفس صيغة المجاز فقال: «ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب -عقل- الرجل الحازم من إحداكن», والسياق اللغوى يحكم ويدلل أن النبى بعد العظة إنما أراد توادهن والتخفيف عليهن, وهنا يُطرح سؤال هام للفقهاء الذين اقتطعوا النص وجعلوه على سبيل الحقيقة بأن المرأة ناقصة العقل والدين وليس المجاز, والسؤال لماذا أخذ الفقهاء نصف حديث النبى على أنه تشريع وتركوا النصف الآخر على سبيل المجاز والتشبيه؟ فلو اعتبر الفقهاء أن النبى يقصد على وجه الحقيقة المقررة أن النساء كلهن ناقصات عقل ودين فكان لزاما عليهم أن يعتبروا حديث النبى ووصفه لأغلب الرجال بالمجانين ذاهبى العقل حقيقة مقررة لقوله لهن: «أذهب للب -عقل- الرجل الحازم من إحداكن» بمعنى أن الرجل الحازم المحب لزوجته هو ذاهب العقل مجنون, ولكن الفقهاء والمفسرين اعتبروا هذا الكلام على سبيل المجاز وليس الحقيقة, وهو صنيع سوء وتدليس لم أر له مثيلا, فلو اعتبرنا ذهاب العقل للرجال على سبيل المجاز فيجب أن نعتبر كذلك نقصان العقل والدين للنساء أيضا على سبيل المجاز، ولو اعتبرنا الكلام عن ذهاب عقول الرجال حقيقة مقررة فلنعتبر ساعتها النقصان فى عقل المرأة كذلك حقيقة, ولكن الفقهاء أخذوا الكلام عن الرجال مجازا والكلام عن النساء حقيقة وشرعا, وسبحان الله فى زور وتدليس كهذا, بل الحق أن الكلام كله للنساء والرجال فى الحديث على سبيل المجاز وليس الحقيقة.

خامسا:
أما الدليل على أن السياق الاجتماعى للخطاب النبوى فى هذا الحديث كان على سبيل التواد والممازحة فيتضح بالعودة إلى الاستقراء فى منهاج الخطاب النبوى, فكل ممازحات النبى التى صحت عنه كانت ذات سياق لغوى متشابه وهو أن يعقد النبى لغزا لغويا للمخاطب ثم يحله بألفاظ لغوية تحتمل المعنى الحقيقى الظاهر ولا تحتمل المعنى الذى يقرر حكما.

ومن ذلك ما أخرجه الترمذى والطبرانى عن امرأة عجوز جاءت تسأل النبى الدعاء لها بدخول الجنة فقال لها بأسلوب اللغز اللغوى ممازحا: «إن الجنة لا يدخلها عجوز» فلما انزعجت المرأة قال لها النبى موضحا حل اللغز اللغوى: «بل ينشئها الله خلقا آخر فتدخلها شابة بكرا» وما ورد أيضا فى «الإحياء» وغيره أن النبى قال ممازحا لامرأة تسأل عن زوجها فقال لها: «زوجك الذى فى عينيه بياض» فاعتقدت المرأة أن زوجها قد ذهب بصره إلا أن النبى حل اللغز اللغوى بقوله: «ما من إنسان إلا وفى عينيه بياض», وكما أخرج الترمذى أن رجلا سأل النبى أن يحمله فقال: «أحملك على ولد الناقة فقال الرجل وما أصنع بها؟ فقال النبى: وهل تلد الإبل إلا النوق», وهكذا كان النبى يعقد دائما اللغز اللغوى ثم يحله بغية الممازحة, ولو قارنا ذلك الخطاب بحديث نقصان العقل لوجدناهما متطابقين بشكل كلى ما يؤكد أن حديث نقصان العقل والدين كان لغزا لغويا أراد النبى به -كما هو نهجه الذى بيناه- أن يتواد مع هؤلاء النسوة ويمازحهن.

سادسا:
فلو اعتبرنا حسب النهج اللغوى المشابه أن النبى كان يتواد هؤلاء النساء ويمازحهن, فقد وجب هنا التفصيل فى معنى الحديث الذى أخرجه الترمذى من قول النبى عن المزاح: «إنى لا أقول إلا حقا» بتفصيل يوضح المعنى المراد من هذا القول, فقد فسره الفقهاء بمعنى أن النبى حتى لو مزح فقوله حق يقرر حكما وهذا فهم مغلوط للحديث. فهناك فارق كبير جدا بين الحقيقة الظاهرة والحكم المقرر بالحقيقة, فظاهر كلام النبى فى ممازحاته التى ذكرناها ينتج حقيقة ظاهرية ولا ينتج لها أثرا وحكما, ففى مثال المرأة العجوز التى قال النبى لها «لن تدخلى الجنة» وكان هذا حقيقة ظاهرية ولكنه لم يقصد بها تقرير حكم وهو عدم دخولها الجنة حقيقة بل قصد معنى غير الذى تبادر فى ذهن السامع، وهو أنها ستدخل فى صورة مغايرة وهنا يتبين معنى «لا أقول إلا حقا» أى بمعنى أن النبى يقول الحق فى ظاهره ولكن لا ينتج هذا القول أثرا حكميا وإلا لم يصبح قوله مزاحا من الأصل بل أصبح تشريعا, وكذلك لو قسنا ذلك المفهوم على المثال الثانى، فقد قال النبى للمرأة «إن زوجها فى عينيه بياض» وهذا حق ظاهرى أن فى عين الرجل بياضا, ولكن ذلك لم يقرر الحكم الذى تبادر إلى ذهن المرأة من إصابة زوجها بالعمى.وهذا هو المعنى الحقيقى للحديث الوارد عن قول النبى الحق فى حديثه عند المزاح.

سابعا:
لو طبقنا ذلك على حديث «نقصان العقل» لوجدنا أن الرسول كذلك قد قال الحق فى مزاحه معهن ولكن لم يقرر الحكم المتبادر لذهن السامعات من قوله ولذلك قال لهن «أما نقصان العقل فإن شهادة إحداكن نصف شهادة الرجل», فالنبى قال الحقيقة الظاهرة ولم يقرر حكما لأن النسوة يعلمن جيدا أن الآية معللة بضلال ونسيان إحداهن وتذكير الأخرى لها حيث الآية خاصة بالشهادة على الديون والتجارة, ثم عقب النبى بقوله «إن نقصان الدين من أثر الحيض» فهو قال الحق الظاهر ولم يقرر حكما به لأن العاقل يعلم أن ذلك لا تؤاخذ عليه النساء فلا يعد نقصانا حقيقيا فى دينهن.

وهنا نستطرد فى استيضاح عدة حقائق حول آية الشهادة فى القرآن فى قول الله: «فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى» البقرة282, بعيدا عن تفسيرات التراثيين:
الآية كانت فى سياق الأموال والحقوق والإشهاد عليها ضمانة لحفظ هذه الحقوق, وقد وصف النبى المجتمع آنذاك فيما أخرجه البخارى من قوله: «إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب» (4/152) فهذا حال الأمة رجالا ونساء, وكانت النساء أبعد بطبيعة الحال والاستضعاف فى المجتمع الجاهلى عن الولوج فى ميادين التجارة والاقتصاد إلا ما ندر, فلما كانت الآية مقصدها الأساسى الحفاظ على الحقوق المالية فكان الهدف هو الاستيثاق من حفظها ولأنهم أمة أمية حال نزول الآية فقد أقر رب العزة فى الآية كل الوسائل المتاحة لحفظ هذه الحقوق, فلما كان الرجال أنفسهم لا يحسبون ولا يكتبون لذا أقر القرآن بوجود رجلين فى الشهادة, ولأن النساء حين ذاك هن أضعف من الرجال خبرة فى التجارة كان الإقرار بوجود اثنتين من النساء حال الشهادة محل الرجل, حيث لا يفهم على الإطلاق أن الأمر بوجود امرأتين مغزاه نقص حقيقى فى أصل خلقة المرأة وفطرتها, فلو أن شهادة المرأتين مع الرجل كانت لأجل نقص فى أصل الخلقة والتكوين لما عقَّب رب العزة بالسبب من أجل وجوب وجود امرأتين بقوله: «أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى», ولكانت اكتفت الآية بذكر وجوب حضور امرأتين من دون سبب ما كان سيبين حينها أنه سبب عضوى ونقصان فى أصل الخلقة, ولكن الله علل ذلك بالضلال وهو النسيان العارض وليس الأصيل لأنه لو كانت خلقة المرأة مفطورة على النسيان كما يزعم التراثيون لما أفلح وجود المرأة الثانية فى الشهادة لأنها أيضا مفطورة على النسيان, وبذلك لن تذكر إحداهما الأخرى ما يوضح فساد التفسير الذى ذهب إليه كل أهل التراث.

كما أنه يجب التأكيد على أن الآية أقرت وجود رجلين فى الشهادة ليس لأجل التوثيق ولكن لأجل التذكير مخافة النسيان فهم أميون فى أغلبهم لا يحسبون, ولكن الفقهاء فسروا الآية بصنيع سوء, فقد صوروا أن وجود الرجلين إنما هو للتوثيق فى حين وجود امرأتين هو لنقصان العقل والنسيان, كما قال ابن كثير فى التفسير: «وإنما أقيمت المرأتان مقام الرجل لنقصان عقل المرأة» (1/724) وهذا باطل, لأن العلة فى تثنية العدد رجالا أو نساء واحدة, فكما لا تصح شهادة المرأة الواحدة أيضا لا تصح شهادة الرجل الواحد فى الأموال لأنه أيضا معرض للنسيان والضلال مثل المرأة وإلا لما كانت الآية أقرت وجود الرجلين ولم تقر وجود رجل واحد طالما اعتبر المفسرون أن الرجل مخلوق كامل وليس ناقصا, بل الحق أن الآية ساوت بين الاثنين وزادت فى المرأة شاهدة فقط لأجل ضعف خبرتها آنذاك وليس لنقص فطرى فى خلقتها, ولكن الفقهاء جعلوا وجود الرجلين للتوثيق ووجود المرأتين للنقص العقلى, وهذا فساد فى الاستدلال فإما وجود الاثنين عدد من الرجال والنساء للتوثيق فبذلك تخرج المرأة من شبهة النقص العقلى, أو وجود الاثنين عدد من الرجال والنساء للتذكير مخافة النسيان فتصبح المرأة والرجل على حد سواء فى الخلقة والعقل, ولا ثالث لهذين الاحتمالين, فلو قلنا الرجلان للتوثيق كانت المرأتان كذلك ولو قلنا الرجلان للنسيان كانت المرأتان كذلك أيضا.

وما يؤكد أن عقل المرأة لا يمكن أن يكون ناقصا فى أصل الخلقة، كما يدعى المفسرون، هو المساواة الكاملة فى الخطاب القرآنى للمؤمنين فى الواجبات والتكليفات والحدود، ونحن نرى فى القرآن «وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ» وكذلك «الزَّانِيَةُ وَالزَّانِى» فلو كان عقل المرأة ناقصا بالفطرة لسقط عنها بعض التكليف لأنها تصبح بذلك مكلفا غير متحمل, وهذا ما لا نجده فى القرآن الذى حكم بكمال الخلقة الإنسانية رجالا ونساء.

وأخيرا لو كانت المرأة ناقصة فى أصل الخلقة لما كان لشهادة المرأتين رجاء ولا معنى, لأن أى ناظر فى علم الرياضيات يعلم أن ألف واحد ناقص لو جمعوا لا ينتجون فى النهاية واحدا كاملا أبدا, فلو اجتمعت ألف امرأة ناقصة فى أصل خلقتها لما عادلوا كفة رجل كامل, وهذا ما يؤكد فساد التفسير الذى أقره الفقهاء والمفسرون للآية على أن نقصان عقل المرأة نقصان خلقى, كما أننا لو نظرنا بروية وتأن لوجدنا أن الآية أقرت شهادة المرأة الواحدة، فلو افترضنا أن المرأة الأولى ضلت ونسيت وتذكرت المرأة الثانية لقامت الشهادة الكاملة فى الواقع على امرأة واحدة ورجل واحد.

وبعد هذا الاستطراد الذى فندنا فيه ادعاء من يقول بالنقصان الحقيقى فى عقل المرأة استنادا لهذه الآية, نعود لنؤكد المعنى الذى أراده النبى من حل اللعز اللغوى بحقيقة ظاهرة وليست حكما مقررا كما بينا سابقا, والدليل المؤيد لذلك هو السياق المكمل لحديث النبى عن نقصان الدين فهو كذلك يقرر حقيقة ظاهرة ولا يقرر حكما عليها كما يتبادر للذهن من كلمة «نقصان» لأنه لا يمكن أن يمثل الحيض للنساء نقصانا فى الدين وإلا كان ذلك اتهاما للعدالة الإلهية -معاذ الله- حيث كتب الله على النساء ذلك الحيض, فلا يمكن اتهامهن بالنقصان أو التقصير, فلا يتصور أن الله يمنعنا من استطاعة فعل شىء ثم يحاسبنا على عدم فعله, ثم لو أن هذا النقصان فى الدين حقيقى لكان النساء اللاتى انقطع عنهن الحيض أصبحن بذلك كاملات فى الدين وهذا ما لا يقره العقلاء, والحق أنهن لم يكن ناقصات فى الدين من الأصل حتى يكملوا ولكنه نقصان شكلى وليس حكميا وهو ما قصده النبى, ما يؤكد أن الحديث لم يكن بالكلية ليقام عليه تشريع قط, بل كان حديثا على سبيل المجاز والممازحة التى لا تقرر حكما.

وأخيرا:
ماذا توارثنا من ذلك الفهم المغلوط الذى استقر فى الوعى المسلم, ورثنا قول ابن باز عن ذلك الحديث: «جنس الرجال أفضل من جنس النساء فى الجملة» مجلة البحوث الإسلامية (29/100- 102), ومن أمثال هذا وغيره تشوهت صورة الإسلام وعدالته المطلقة, وتشوهت شخصية المرأة المسلمة بدونية وإحساس بالنقص اختلقه صنيع السوء من الفقهاء والمفسرين وامتزجت فيه آراؤهم بالشرع فأصبح الشرع آراؤهم، وآراؤهم من الشرع, وها نحن فى واقعنا نرى الأمم التى قدرت المرأة تقودها النساء من ملكات ورئيسات لأفضل كثيرا مما قاد به الرجال, وها هو القرآن يحكم بفضل ملكة سبأ التى بحكمتها وحنكتها حمت ملكها ولو أنها اتبعت رأى المستشارين من رجالها التائهين لأوردوها موارد التهلكة, وها نحن نرى فى مجتمعاتنا وزيرات وقاضيات وعالمات فى شتى مناحى العلوم, ونرى أمهات عظيمات أخرجن بحكمتهن وصبرهن ودأبهن أجيالا من الرجال الذين تعلموا بعد ذلك أن أمهاتهم ناقصات عقل ودين.

فلنتخلص إذن من فهم فقهاء القبيلة, ونحيل تفسيراتهم للمتاحف كما أقول دائما ويبقى لنا وجه العدالة بين الرجال والنساء فى ديننا خالصا سائغا للعاقلين, حيث يقول سبحانه: «وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ».








مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
التعليقات 1

عدد الردود 0

بواسطة:

بدون

مفيش اي تشكيك في الحديث نهائيا

اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة